مؤشر دولي جديد للمعاشات التقاعدية يجعل تصنيف الدول الخليجية في أسفل القائمة

مؤشر دولي جديد للمعاشات التقاعدية يجعل تصنيف الدول الخليجية في أسفل القائمة

كوفيد-19 أثبت للعالم أن التغيير الجذري والإجراءات الجريئة ممكنة وهذا درس يمكن تطبيقه على إصلاح أنظمة التقاعد

إبراهيم خليل إبراهيم *

قبل بضعة أسابيع وفي هذه الجريدة، أشرنا إلى أن صناديق التقاعد أينما كانت هي من أكثر الأطراف تضررا جراء جائحة كورونا التي تعصف بالعالم، لكن الأذهان منشغلة الآن بالأضرار المباشرة للجائحة، رغم أن الوضع التقاعدي في أي بلد هو من الأهمية بمكان بحيث يجب أن لاينسى في معركتنا مع التحديات الأخرى.

 وقبل يومين، في 28 مايو 2020، دشنت “أليانز” (الشركة الألمانية العالمية للتأمين والخدمات المالية) موشرا دوليا جديدا للمعاشات التقاعدية يؤكد الإقتصاديون الذين أعدوه بأن ثمة شيئين يجب ألا يغيبا عن عناوين الصحف مهما حصل، نظرا لجسامة عواقبهم على سكان العالم، وهما التغير المناخي والتغير الديموغرافي! والمقصود هنا من التغير الديموغرافي بالتحديد هو التغير المضطرد في شرائح التركيبة السكانية، من حيث إنخفاض نسبة المواليد وإرتفاع نسبة الشيخوخة في العدد الكلي للسكان من جهة (النظر إلى التركيبة السكانية للعالم في 1950 ومقارنتها بالتركيبة السكانية المتوقعة في العام 2050 توضح ذلك بشكل جلي)، ومن جهة أخرى زيادة العمر المتوقع لمن هم في الشيخوخة بعدد من السنين عن الجيل الذي سبقهم، مما يفاقم ويطيل أمد الإلتزامات المالية على صناديق التقاعد، ناهيك عن باقي التكاليف الإقتصادية المتعلقة بالعناية الصحية والإجتماعية لمن هم في سن الشيخوخة.

مؤشر أليانز هو المؤشر الثاني في صناعة التقاعد بعد مؤشر ميرسر الدولي والذي سبقه بـ 11 عاما ويغطي 37 دولة تعادل أكثر من 60% من سكان العالم.

لكن هذا المؤشر الجديد يتميز بتغطيته لعدد أكبر من الدول العربية نسبيا مقارنة مع مؤشر ميرسر الذي يشتمل على المملكة العربية السعودية فقط كونها من مجموعة العشرين الكبار، كما أن تغطيته تزيد لأكثر من 70% من سكان العالم.

كلا المؤشرين يتألف من ثلاثة مؤشرات فرعية، ويتشابهان في إثنين منهما ويتمايزان في المؤشر الثالث. المؤشران الفرعيان الذين يتشابهان فيهما هما: مدى ملائمة الترتيبات والمزايا الحالية للمستوى المعيشي الذي يتوقعه الناس ويعرف بـ “الملائمة”، وإمكانية إستدامة الترتيبات والمزايا الحالية للسنوات القادمة والجيل القادم ويعرف بـ “الإستدامة”.

عجز الموازنات وتراكم الدين العام يقللان مساحة المناورة لحفظ وإستدامة مزايا التقاعد والتأخر في الإصلاح يورط الجيل القادم بحمولة مالية ثقيلة

 وفي حين يعنى المؤشر الفرعي الثالث لميرسر بـ “الجودة الإدارية” لصندوق التقاعد من حيث الحوكمة والشفافية وإصدار التقارير المنتظمة والتواصل مع منتسبيه والأطراف ذات العلاقة، فإن المؤشر الفرعي الثالث لأليانز (وهو في رأينا إضافة جوهرية في تقييم أنظمة التقاعد حسب المؤشرات الإقتصادية والديموغرافية الكلية) فينظر إلى قياس مساحة المناورة (المدة الزمنية أو القدرة المالية) المتاحة حاليا بين حجم تكلفة التقاعد والإمكانات المالية الفعلية والمستقبلية للدولة.

كما أسلفنا، فإن مؤشر ميرسر لا يغطي من الدول العربية إلا المملكة العربية السعودية، ومن 37 دولة جاءت الشقيقة السعودية في الترتيب 22 على ذلك المؤشر، أما مؤشر أليانز فيغطي 70 دولة، منها 8 دول عربية هي مصر والمغرب والكويت والبحرين وقطر والسعودية والإمارات ولبنان، حيث جاءت مملكة البحرين في الترتيب 65 متقدمة بذلك على 5 دول وهي قطر والسعودية وسريلانا والإمارات ولبنان، في حين يتقدم البحرين من الدول العربية كل من مصر والمغرب والكويت، علما بأن الدول الخليجية جاءت في ذيل المؤشر. 

ويتبع مؤشر أليانز منطقًا بسيطًا، يبدأ بتحليل الشروط المسبقة الديموغرافية والمالية، وبعد ذلك ينظر في أنظمة المعاشات الوطنية على أساس بعدين حاسمين: الملائمة والاستدامة. لذلك فهو يعتمد على ثلاث ركائز، ويأخذ في الاعتبار ما مجموعه ثلاثين سؤالا أو معلمة مختلفة (مقارنة بـ 40 سؤال في مؤشر ميرسر)، والتي توضع لها تقييمات على مقياس من 1 إلى 7 ، مع كون 1 أفضل تصنيف ممكن و7 هي الأسوأ. من خلال تلخيص جميع المجاميع الفرعية، يعين المؤشر تصنيفًا من 1 إلى 7 لكل من السبعين دولة التي تم تحليلها، وبالتالي يوفر نظرة عامة مفصلة وشاملة للعديد من أنظمة المعاشات الوطنية.

يركز المؤشر الفرعي الأول (أو الركيزة الأولى) لأليانز على الفسحة المالية بين التغيير الديموغرافي والوضع المالي العام، ومنها يبدأ ببناء نقطة الانطلاق لأي إصلاح للمعاشات التقاعدية. فالظروف الهيكلية ثابتة إلى حد ما –  الاتجاهات الديموغرافية الحالية لا يمكن تغييرها إلا على مدى فترات زمنية طويلة جدا، في حين أن تراكم عجز الموازنات ينمو بشكل أسرع بكثير من جهود تخفيضها، مما يحد من مساحة الحكومات للمناورة. ويسجل العديد من البلدان الناشئة في أفريقيا وآسيا نتائج جيدة في هذا المؤشر لأن سكانها لا يزالون في سن أصغر، والعجز العام والديون منخفضة نوعًا ما. في المقابل، فإن العديد من البلدان الأوروبية مثل إيطاليا والبرتغال من بين أسوأ الدول أداء، إذ يعاني سكانهم من نسبة كبيرة من الشيخوخة والدولة تواجه ديونا عامة عالية.

لم يسبق أن كان متوسط العمر المتوقع مرتفعًا مثلما هو عليه اليوم، كما يتوقع أنه سيزداد أربع سنوات أخرى على مستوى العالم حتى منتصف القرن. ونتيجة لذلك، من المتوقع أن يتضاعف عدد الأشخاص في سن التقاعد في جميع أنحاء العالم إلى أكثر من الضعف في غضون الثلاثين عامًا القادمة من 728 مليون اليوم إلى أكثر من 1.5 مليار عام 2050، إذ سوف تزداد نسبة الأشخاص الذين تتراوح أعمارهم بين 65 عامًا فأكثر في عدد سكان العالم من 9٪ اليوم إلى 16٪ في عام 2050.

العدالة في المزايا التقاعدية بين الأجيال من أهم المعايير الإقتصادية والقانونية لصناديق التقاعد العامة

تظهر التغيرات الجذرية في الصورة الديموغرافية بشكل أوضح في الزيادة في نسبة السكان المسنين غير النشطين اقتصاديًا، إذ بحلول عام 2050، ستنمو حصة هؤلاء الأفراد بنسبة مذهلة لتصل إلى 25 في المائة. كما ستشهد العديد من الاقتصادات الناشئة نسبة شيخوخة بضعف الحجم الحالي مثل الصين الذي ستقفز فيه تلك النسبة من 17 في المائة حاليا إلى 44 في المائة. أما في أوروبا الغربية والتي شهدت منذ عقود تغيرا حادا في إنخفاض المواليد وزيادة أعمار المسنين، فإن علماء الديمغرافيا يقدرون أن نسبة الشيخوخة (من مجمل السكان) قد تصل إلى 50 من السكان.

إذن، فإن الحاجة إلى إصلاحات التقاعد هي حاجة عالمية، لكن شروط البدء تختلف اختلافا كبيرا بين البلدان فيما يتعلق بالفرص المالية وديناميات التغيير الديموغرافي. بتعبير آخر، حجم أو نسبة إعالة المسنين يقابله قوة أو ضعف الميزانية الوطنية هي المساحة المتاحة للتحرك في الإصلاح، وكذلك السرعة التي يجب أن ينطلق بها ذلك الإصلاح. في ظل هذا التغير الديموغرافي، فإن سياسة تقاعدية تميل لصالح المتقاعدين الحاليين ليست في مصلحة الأجيال الشابة التي ستضطر في نهاية المطاف إلى دفع الفاتورة. ولكن في معظم البلدان، الولوج في هذا الموضوع هو أشبه بالمشي في حقول الألغام السياسية.

وفي نهاية الأمر، يجب أن تكون مسألة توافق اجتماعي: ما هي حصة الناتج المحلي الإجمالي التي يرغب المجتمع في إنفاقها على كبار السن لمكافأة مساهماتهم في التنمية الاقتصادية خلال حياتهم العملية. ويتم تحديد الفسحة المالية المتاحة من خلال قياس المستويات الحالية للديون العامة والنفقات الحكومية على إعانات الشيخوخة؛ وكلما زاد هذان العاملان مقارنة بالناتج المحلي الإجمالي اليوم، كلما انخفض الهامش المالي للأجيال القادمة، وكلما زاد عدم التوازن في توزيع العبىء المالي للشيخوخة بين الأجيال الحالية والمستقبلية.

أما المؤشر الفرعي الثاني لأليانز فهو مؤشر الاستدامة، الذي يقيس كيفية تفاعل أنظمة التقاعد مع التغير الديمغرافي. وجاء أفضل أداء لإندونيسيا وبلغاريا، ويرجع الفضل في ذلك بشكل رئيسي إلى زيادة سن التقاعد، إلى جانب مثبطات (disincentives) التقاعد المبكر وإدخال أجزاء من التمويل الذاتي لتحسين الدخل التقاعدي ضمن صناديق التقاعد الحكومية نفسها. أما في ذيل المؤشر فقد جاءت المملكة العربية السعودية وسريلانكا وماليزيا، حيث لا يزال سن التقاعد 60 وما دونها ولا توجد خصومات  ملموسة على رواتب التقاعد المبكر ولا العوامل الديموغرافية الأخرى.

تعتمد الاستدامة طويلة المدى لنظام التقاعد على مدى إستجابته الصحيحة للمتغيرات الديموغرافية المستقبلية. ويشمل صندوق المعدات (tool box) المتوفر لهذه المعالجة ما يلي: التحكم في سن التقاعد حسب الزيادات العمرية المتوقعة، ومثبتات لتوازن صندوق التقاعد مثل تأجيل التقاعد (من خلال إشتراط حد أدنى من

المساهمات ومدة خدمة معينة معقولة وخصومات ملموسة في الراتب التقاعدي في حال التقاعد المبكر)، وضبط التوازن بين عدد السنوات التي يقضيها المواطن خلال وظيفته والسنوات التي يقضيها في حياته التقاعدية، وذلك أجل تخفيف التأثيرات الديموغرافية والمالية على أنظمة التقاعد.

وفي هذا الصدد، اجتازت 37 دولة خلال السنوات العشر الماضية إصلاحات في المعاشات التقاعدية تتضمن زيادة تدريجية في سن التقاعد القانوني (بينما لا تزال هذه القضية تمثل معركة سياسية ودستورية شائكة في عدد ليس قليل من البلدان التي تنوي السير في نفس الإتجاه). والسؤال هو ما إذا كانت الزيادات المتفق عليها كافية لتعويض التحسن المتوقع في زيادة العمر المتوقعة!

أما المؤشر الفرعي الثالث فيصنف مدى ملائمة أنظمة التقاعد، من حيث توفيرها لمستوى معيشي لائق في الشيخوخة ويواكب مستوى الحياة مستقبلا. بشكل عام، جاءت ​​الدرجات في المؤشر الفرعي للملائمة (3.7) أفضل قليلاً من مؤشر الاستدامة (4.0)، مما يدلل على أن معظم الأنظمة لا تزال تضع وزناً أكبر على رفاهية الجيل الحالي من المتقاعدين من الجيل القادم.

ومن أجل تحليل هذا الجانب، يؤخذ في الاعتبار النسبة المئوية التي يغطيها نظام التقاعد من سكان البلد، ومعادلة إحتساب الراتب التقاعدي (مقارنة بالراتب الإجمالي قبل التقاعد)، وجود التقاعد الخاص من خلال نظام تقاعد الموظفين الذي توفره الشركات لموظفيها (الدعامة الثانية) أو الذي يشترك فيه الأفرد بأنفسهم إختياريا (الدعامة الثالثة)، معدلات الإدخار الوطني (مقابل معدلات الديون الإستهلاكية الوطنية) ووجود حوافر الإدخار للتقاعد. يهدف مؤشر الإستدامة إلى توفير معاش عام وعادل لأكبر عدد ممكن من السكان، مدعوما قدر الإمكان بدخل إضافي إما عن طريق الدعامتين الثانية والثالثة وإلزاميتهما إن أمكن، وإما من خلال خلق حوافز فعالة للإدخار، وقبل كل ذلك من خلال توفير فرص العمل الملائمة. والدول التي تتصدر تصنيف الملائمة من حيث سخاء الرواتب التقاعدية العامة هي النمسا وإيطاليا، ومن حيث وجود نظام تقاعد خاص رديف وقوي جاءت في قمة المؤشر كل من نيوزيلندا وهولندا. وأما في ذيل المؤشر، فتوجد دول ناشئة مثل نيجيريا ولاوس، والتي لا تزال تفتقر إلى أنظمة تقاعدية حكومية موثوق بها على الإطلاق.

1.5 مليار متقاعد في الثلاثين عاما القادمة والسخاء النسبي تجاه المتقاعدين الحاليين يستنزف القدرة على توفير تقاعد ملائم للأجيال القادمة

ويلاحظ بشكل واضح أن مؤشري ميرسر وأليانز، رغم كونهما مؤشرين متشابهين إلى حد كبير من حيث الغرض والتصميم والشمولية، إلا أنهما يعتبران بمثابة أجهزة مختلفة لقياس أشياء مختلفة في صناديق التقاعد! وإلا كيف نفسر ترتيب المملكة العربية السعودية في تقرير ميرسر الأخير(لعام 2019) والذي وضعها في وسط القائمة في الترتيب 22 من بين 37 دولة، في حين يضعها مؤشر أليانز في المرتبة 68 من بين 70 دولة! كما أنه من الظاهر لعموم الناس، كيف لمصر والمغرب أن يكونا في مرتبة أفضل من الكويت والسعودية والإمارات، الدول الغنية إقتصاديا والصغيرة في تعداد السكان؟ والإجابة على ذلك، هو في إختلاف الطريقة التي ينتهجها كل مؤشر. ففي حين وضع مؤشر ميرسر أهمية كبيرة للقوة المالية والإقتصادية (economic fundamentals) للدولة المسؤلة عن النظام التقاعدي، وضع مؤشر أليانز أهمية كبيرة للتشريعات والخطوات المعيارية التي إتخذتها أنظمة التقاعد وإلتزمت بها، بما لا يسمح للأفراد في المغرب ومصر على سبيل بالخروج إلى التقاعد المبكر قبل الوصول إلى الخدمة الكاملة والسن القانونية، مما يحافظ على التوازن الديمغرافي لصناديق التقاعد بين العاملين والمتقاعدين.

كيف يجب أن يكون نظام التقاعد “المثالي”؟ يشير الإقتصاديون المعنيون بتحليل مؤشر أليانز أن وجود نظام أفضل وأكثر توازنا لمعظم البلدان هو أمر ممكن وفي متناول اليد. لكنه يحتاج الإرادة السياسية وخلق التوافق الإجتماعي لشكل الإقتصاد الإجتماعي الذي يتوق اليه المجتمع مستقبلا.