إضاءات على أزمة صناديق التقاعد في البحرين -3

إضاءات على أزمة صناديق التقاعد في البحرين -3

أين ذهبت أموال صناديق التقاعد التي ساهم فيها ألوف الموظفين طيلة 44 عام؟

تخفيض الإشتراكات في 1986 كلف الصناديق من 7 إلى 8 مليار دينار

بقلم: إبراهيم خليل إبراهيم

في العددين اللذين سبقا هذا الجزء المنشورين خلال الإسبوعين الماضيين، وعدنا القارىء أننا سوف نجيب على ثلاثة أسئلة محددة بشأن أزمة تمويل صناديق التقاعد، بحيث يتناول كل مقال سؤالا محوريا من التسآؤلات المطروحة على حدى وبشيء من التفصيل.

والسؤال الذي نغطيه في هذا الجزء الثالث هو: إذا كان هناك بالفعل عجز كبير بهذا القدر، فأين ذهبت أموال هذه الصناديق التي ساهم فيها مئات ألوف الموظفين طيلة 44 عاما؟ جميع ما سوف يرد في هذا المقال هو إجابة لهذا السؤال فقط وليس لأية تسآؤلات أو قضايا أخرى تخص صناديق التقاعد.

 كما أنه ليس الهدف من المقال إنتقاد أو الدفاع عن وجهة نظر أي طرف من الأطراف، بقدر ما هو تحليل مهني بحت بإستخدام مؤشرات صناعة التقاعد والمؤشرات الحالية لصناديق التقاعد في البحرين.

ما الذي حدث في الماضي؟

بعيد إستقلالها في مطلع السبعينات، إنطلقت دولة البحرين وبخطى حثيثة في إرساء دعائم الدولة الحديثة وتشييد بنيتها التحتية، التي شملت كافة الجوانب التنفيذية والتشريعية والقضائية والإقتصادية والإجتماعية. ولاتزال القوانين التي صدرت في تلك الحقبة هي الأساس التي بني عليه كافة خدمات الدولة وأطرها التنظيمية والرخاء الإجتماعي الذي تنعم به مملكة البحرين اليوم. ومن تلك القوانين، والمعنية بمقالنا هذا، ما يلي:  

      إصدار قانون التقاعد للقطاع العام في 28 يونيو 1975 (بعد يومين من حل برلمان 1975، إلا أن هذا القانون صدر من خلال وبموافقة المجلس الوطني).

إصدار قانون العمل للقطاع الأهلي – القانون رقم 23 لسنة 1976 بتاريخ 16 يونيو 1976 – والذي ألغي وحل محله القانون رقم 36 للعام 2012.

إصدار قانون التقاعد للقطاع الخاص – القانون رقم 24 لسنة 1976  بتاريخ 29 يونيو 1976 والذي يحاكي في جوهره قانون التقاعد للقطاع العام مع إختلاف في مستوى بعض المزايا التأمينية.

صدرت هذه القوانين تقريبا كحزمة واحدة، لا تتعدى المسافة الزمنية بين صدور أحدها عن الآخر سوى أيام أو أشهر قليلة، لتدشن مرحلة مهمة من تطلعات الحكومة للسير بالبحرين قدما إلى مصاف الدول المتقدمة، وإستجابة كذلك لمطالبات عمالية ملحة في وقت كانت الحاجة ماسة لعمالة مستقرة ومحفزة أبان فترة بناء البنية التحتية للصناعة في البلاد بما في ذلك المصانع والشركات الكبرى التي نشأت معظمها في تلك الحقبة.

وكان إصدار قانون التقاعد متزامنا مع إصدار قانون العمل بمثابة الإعتبار أن العناية بالعاملين وحقوقهم بالحياة العزيزة والكريمة عند التقاعد وبلوغ الشيخوخة هي جزء مكمل، بل جزء لا يتجزء من قانون العمل كما هو الحال حاليا بالنسبة لتنظيم قطاع العمل ومنظومته القانونية على المستوى الدولي.

هذه القوانين والتي يصل بعضها في مواده القانونية إلى قرابة ال 150 مادة ، دشنت أطارا قانونيا تنظيميا متكاملا ومتطورا عى المستوى الإقليمي، ووفرت أرضية صلبة من الإستقرار الإجتماعي والوظيفي لأربعين عاما تلتها من نهضة البلاد وبناء قطاعاتها الإقتصادية ومركزها التنافسي، وفي الوقت نفسه بناء إقتصادها الإجتماعي وشبكة الحماية الإجتماعية (أنظمة التقاعد بجميع مزاياها) التي كانت ولاتزال حتى اليوم من أفضل النظم شمولية وسخاء بالمقاييس الدولية.

ومنذ صدوره، شهد قانون التقاعد بشقيه العام والخاص سلسلة من التعديلات المتواصلة التي تصل إلى قرابة ال 50 تعديلا على هيئة مراسيم بقوانين وقرارات حكومية وقرارات وزارية، غالبيتها العظمى إما لتحسين وزيادة المزايا التقاعدية والمكافات وتعويضات العجز والوفاة الموجودة، أو لإضافة مزايا جديدة ومزيد من المرونة في قانون التقاعد. شملت هذه التعديلات بشكل تدريجي تراكمي ما يلي :

إدخال المنح العائلية (للوفاة والزواج والجنازة)، والإعانة في حال فقد المؤمن عليه، وبدلات يومية وشهرية عن إصابات العمل.

زيادة الحد الأدنى للراتب التقاعدي لعدد من المرات ليصل من 50 دينار إلى 350 دينار.

زيادة الحد الأدنى لمعاش المستحقين عن المتوفين لعدد من المرات لتصل من 5 دنانير إلى قرابة 50 دينار (إذا ما أضفنا عليها علاوة غلاء المعيشة)

تحسين المعامل الحسابي لحساب الراتب التقاعدي

السماح بشراء سنوات عمل فعلية سابقة

السماح بشراء سنوات عمل إفتراضية

الزيادة السنوية 3%

زيادة تعويضات العجز الجزئي والكلي

مساواة مزايا تقاعد القطاع الخاص بتقاعد القطاع العام

إستحداث علاوة تحسين المعيشة

أضف إلى ذلك، إستيعاب صناديق التقاعد تاريخيا لأفواج من المسرحين بسبب بعض خطوات الخصخصة الحكومية وتقليل الوظائف في الشركات الكبرى (redundancy programs). كما كانت هناك ممارسات إدارية في القطاع الحكومي حتى فترة قريبة تقضي بمنح الموظف الذي ينوي التقاعد في سن ال 55 أو أكثر أو من أجل تشجيعه على التقاعد أحيانا بإعطائه درجة جديدة أو زيادة مرتبه إلى نهاية المربوط أو إعطائه حافزا، مما يحسن كثيرا في راتبه التقاعدي.

شكل هذا التراكم، طوبة فوق طوبة، من المزايا وتحسيناتها على مدى 44 عاما عبر كثير من المداولات والمفاوضات (بين الحكومة وأصحاب الأعمال وممثلي العمال) ما يمكن أن نصفه اليوم ب “الهرم الراسخ” من المزايا والمكتسبات في حقل الحماية الإجتماعية ومجتمع الرخاء التي تميزت به البحرين وعموم دول مجلس التعاون الخليجي.

هذه المزايا والرواتب التقاعدية يستفيد منها اليوم أكثر من 150,000 (إذا ما أضفنا إليهم صندوق تقاعد العكسريين) من البحرينين المتقاعدين الأحياء والمستحقين عن المتوفين من اصحاب المعاشات وعائلاتهم في كل مناطق المملكة ومستوياتها الإجتماعية.

ساهمت هذه المزايا عبر السنين في خلق الإستقرار والرفاه الإجتماعي للمجتمع البحريني، كما رفعت من القوة الشرائية للعائلة البحرينية خاصة من ذوي الدخل المحدود، وأصبحت جزء لا يتجزى من إسلوب حياة الناس وإقتصادهم المعيشي. ولأنها تسير الآن في عقدها الخامس وعاصرت جيلين من المجتمع البحريني، فإن خدمات ومزايا التقاعد التي يحصل عليها المواطنون بات ينظر إليها على أنها خدمة حكومية أساسية ومضمونة، حالها حال التعليم والصحة والإسكان وغيرها من الخدمات الإجتماعية.

ما الذي يحدث حاليا؟ ومن أين أتى العجز الكبير في هذه الصناديق بنسبة تقترب من 90% بالنسبة لصندوق تقاعد القطاع العام وما يقارب ال 80% من صندوق تقاعد القطاع الخاص؟

للإجابة على هذا السؤال، لابد أن نشرح أولا بإيجاز كيفية عمل أنظمة التقاعد القائمة عندنا في البحرين وكافة المنطقة، وهو نظام المزايا المحددة (defined benefit pensions) والذي بموجب شروطه يعمل الفرد عددا من السنين  يتم خلالها إقتطاع نسبة متفق عليها من مرتبه الشهري وتقوم الجهة التي يعمل لديها أيضا بالمساهمة بنسبة معينة يحددها القانون المحلي المعمول به، وتذهب كلتا المساهمتين إلى صندوق عام للتقاعد (حسب القطاع الذي ينتمي اليه العامل) وتكون جزء من الإصول المستثمرة لذلك الصندوق.

وعندما يتقاعد هذا العامل، فإن هناك قانونا لطريقة إحتساب مرتبه التقاعدي الذي يستحقه، وهي عادة معادلة تشمل جزء من مرتبه (جزء من خمسين أو ستين جزء) ويعرف بالمعامل الحسابي مضروبا في عدد سنين خدمته، مع خصومات بنسب محددة طبقا لعمره إذا لم يبلغ 60 عاما عند تقاعده.

عندما يبدأ العامل بتقاضي مرتبه التقاعدي الشهري، فإنه من الناحية الفنية الإدارية لا يتقاضاه من حساب إدخاري فردي أنشأ بإسمه وبالتالي فإنه يتناقص بمرور الشهور والسنين من تقاعد العامل، وإنما يتقاضاه من صندوق عام تديره الجهة المسؤلة قانونيا عن الصندوق، وفي حالتنا في البحرين وكافة دول المنطقة، فإن الجهة التي تديره هي الحكومة. وتعمل هذه الصناديق على أساس تضامني بين الأجيال، بحيث يمول العاملون اليوم الرواتب التقاعدية للمتقاعدين الأحياء وللمستحقين عن المتقاعدين المتوفين، وعندما يتقاعد العاملون الحاليون في المستقبل فإن الجيل القادم من العاملين سوف يعمل بالمثل على تمويل رواتبهم، وهكذا دواليك عبر السنين والعقود. وتمول رواتب المتقاعدين من الميزانية السنوية لإيرادات الصناديق من الإشتراكات وعوائدها، وفي حال وجود أية عجوزات، فإن الجهة المسؤلة عن الصناديق تضطر حسب المسؤلية القانونية لدعمها من خلال خزينتها أو موازنتها السنوية إذا إقتضى الأمر.

من المهم جدا أيضا ونحن نشرح هذا النظام التقاعدي أن نشير إلى أن تصميمه يبنى على نموذج رياضي (mathematical model) يشمل حجم المزايا المراد تمويلها وزياداتها وتكاليفها المستقبلية بما في ذلك الإفتراضات المتعلقة بمعدل أعمار المتقاعدين قبل الوفاة ونسبة التضخم السنوي والمصاريف التشغيلية للصندوق ضمن أمور ديمغرافية أخرى من جهة (كتكاليف)، ونسبة الإشتراكات وسنوات إستمرارها بالمشاركة وحجم الرواتب المتوقعة وعوائد الإستثمار من جهة أخرى (كإيرادات). وأنه كلما زادت المزايا عن حجم الإيرادات والإصول نتج لدينا “عجز”، وإذا زادت الإيرادات والأصول عن تكلفة المزايا نتج لدينا “فائض”. وتتطلب الإدارة الناجحة للنظام التقاعدي موازنة دقيقة ومستمرة لجعل المزايا التقاعدية ملائمة من حيث المستوى الإقتصادي لتكلفة المعيشة المحلية (adequacy) من جهة، ومن حيث القدرة على تمويلها بشكل مستدام دون عجوزات كبيرة (affordability) من جهة أخرى.

بناء على ما سبق شرحه من طريقة تصميم النظام التقاعدي وإدارته، نجيب الآن كيف حدث هذا العجز الكبير؟.

اولا : زيادات صغيرة لكنها تراكمت وأصبحت كثيرة من حيث تكلفتها المالية:  بنيت منافع التقاعد الموجودة لدينا تدريجيا – لبنة لبنة – وهي في منتصف عقدها الخامس حاليا. وكل تحسين إضافي للمزايا كان نسبيًا صغيرا في وقته، مع القليل من المساءلة عن التمويل والتكاليف المتراكمة ومخاطرها الكبيرة. وشجع هذا التوجه أمران: أولهما ويخص القائمين على التأمينات الإجتماعية بما كانوا يشهدونه من قوة سوق الأسهم وأسعار الفائدة المرتفعة  للسندات (في لحظات مختلفة) جعلت كل زيادة في مزايا التأمين أو تخفيض في المساهمات تبدو ممكنة ومستدامة إلى أمد بعيد.      

 الثاني ويخص حكومات دول المنطقة وهو أن إيرادات النفط منذ السبعينيات وإلى العام 2014 هي آخذة بالتزايد (من 3 دولار للبرميل في بداية السبعينيات إلى 145 دولار في العام 2008)، ما يعني وجود موازنات إيرادات قوية تدعم إحتياجات الإنفاق الحكومي.

ثانيا : بإتجاه عكسي لزيادات المنافع، هناك تخفيض لنسبة الإشتراك: إذا كانت زيادة المنافع والرواتب ضربة موجعة لصندوق التقاعد بناء على النموذج الرياضي الذي بني عليه، فإن تخفيض نسبة الإشتراك هي الأخرى لا تقل إيلاما عليه.

في البحرين وبناء على لوبي غرفة التجارة والصناعة القوي أبان الثمانينيات والتسعينيات ودعما لبيئة الأعمال التجارية، تم تخفيض نسبة الإشتراك في 1986 من نسبة 14% لجهة العمل و7% للعامل (أي ما مجموعه 21% من المرتب) إلى 10% لجهة العمل و5% للعامل (أي 15% وبتقليل نسبته 6% من مرتب العامل) بما يشبه tax break في الدول المتطورة.

وفي العام 2007 ونتيجة ضغوط إكتوارية قامت الحكومة بإرجاع زيادة طفيفة بمقدار 3% لتصبح نسبة إشتراك صاحب العمل 12% والعامل 6% المطبقة حتى الآن (والتي هي مخفضة بنسبة 3% من مرتب الموظف عن النموذج الأصلي الذي بني عليه تمويل الصندوق).

 إذن في مقابل منحنى صاعد لمزايا التأمينات منذ تدشينها في العام 1975، يوجد منحى نازل من تمويل الإشتراكات من بداية العام 1987. وبإجراء تحليل تقريبي (sensitivity analysis) مبني على إفتراضات مشابهة للنموذج الرياضي الإكتواري لصناديق التأمينات، يتضح لنا أن تكلفة تلك التخفيضات – او ما يمكن أن نطلق عليه (opportunity cost) المفقودة من أصول الصناديق بما فيها عوائد الإستثمار – والتي كانت بنسبة 6% من مرتبات الموظفين ل 21 سنة (من بداية 1987 إلى 2007) وبعدها بنسبة 3% من مرتبات الموظفين ل 12 سنة (من 2007 إلى 2019) فإنها تتراوح بين 7 إلى 8 مليار دينار بحريني مدعومة بعوائد الإسثمار القوية في الثمانينات والتسعينيات.

ولتقريب الصورة لذهن القارىء، نشير إلى أن صندوق التعطل الذي بدأ العمل به في 2007 بمساهمة نسبتها 1% من المرتب من قبل العامل و1% أخرى من قبل جهة العمل (أي ما مجموعه 2% فقط من مرتبات العاملين) قد حقق وفرة مالية قدرها 800 مليون دينار بنهاية العام الماضي رغم أنه يصرف ما قدره 8 ملايين دينار سنويا، أي أن المجموع التراكمي لأصوله وعوائده الإستثمارية قد إقتربت من المليار دينار بعد 11 سنة. فلك أن تتخيل حجم الفرق في اصول صناديق التقاعد لو بقيت نسبة الإشتراك على ما هي عليه حسب التصميم الأصلي للنظام.

ثالثا : التقاعد المبكر: نظام التقاعد المعمول به والإدخار للتقاعد عموما حسب الإقتصاد التقاعدي يقتضي العمل ل 40 عاما أو العمل حتى بلوغ سنة 60 أو 65 عاما بعض الأحيان ليتقاعد الموظف، وحتى أنظمة التقاعد الخليجية، وهي متشابة إلى حد كبير، تتحدث نصوصها عن تقاعد الرجل في سن 60 سنة وللمرأة في سن 55 سنة، لكنها تسمح للتقاعد قبل هذا السن في عدد من الحالات مع تطبيق خصم بنسب معينة في الراتب التقاعدي.

إذن النموذج الرياضي الذي بني على أساسه إستقطاع وإستثمار مساهمات العاملين (أو لنقل الغالبية العظمى من العاملين) هي 40 سنة عمل أو وصول العامل من الذكور لسن 60 سنة وللعاملة من الإناث لسن 55 سنة.

وبتفحص الإحصاءات الحالية، تكتشف أن متوسط عمر المتقاعدين الحالين في البحرين هو 47 سنة للقطاع الخاص و50 سنة للقطاع العام، وأن العاملين الحاليين المساهمين في الصناديق يبلغ متوسط سنوات خدمتهم 10 سنوات للقطاع الخاص و12 سنة للقطاع العام، وأن الذين أعمارهم من 40 إلى 60 سنة في كلا الصندوقين هم أقل من الربع بنسبة 24% من بين جميع العاملين.

وهو ما يثبت أن الغالبية العظمى تتقاعد بعد خدمة تتراوح من 20 إلى 25 سنة فقط إذا ما وضعنا في الإعتبار أن العامل يلتحق بسوق العمل وصندوق التقاعد في سن 25 سنة.

وهو ما يثبت أيضا أن نسبة ليست صغيرة من هولاء المتقاعدين المبكرين يستفيدون من المرتبات التقاعدية لمدة تتراوح من 25 إلى 35 سنة (أي أطول من مدة إشتراكهم ومساهمتهم في الصندوق) إذا ما أخذنا في الإعتبار أن المواطنين البحرينين والخليجيين تصل أعمار نسبة منهم إلى 80 سنة وأكثر بفضل الخدمات الصحية الجيدة.

 مع ملاحظة أن هذا أمر عكسي بالنسبة لتصميم صناديق التقاعد الموجودة والتي صممت أساسا على أنها صناديق تأمين إجتماعي ضد الشيخوخة والعجز والوفاة.

رابعا : تعظيم الإصول وإغفال الإلتزامات: مع تحقيق صناديق التقاعد عالميا لعوائد مزدوجة الرقم في الثمانينيات والتسعينيات، توجه تركيز مسؤلي التأمينات الإجتماعية إلى بناء الأصول وتعظيمها، وذلك على حساب الإنتباه جيدا لمخاطر الإلتزامات. حيث استفادوا من قيمة الأصول العالية (جراء عوائد الإستثمار المجزية) لتخفيض الإشتراكات وزيادة المزايا وإدخال تعديلات تكلفة المعيشة، كل ذلك بدى وكأنه سهل ولا يحتاج لزيادة المساهمات).

أما اليوم، فإن البيئة الإستثمارية وضعها مختلف تماما وغير مؤات كما سيتم التوضيح في الشرح اللاحق.

وساعد في هذا السلوك أيضا الممارسات الحسابية السائدة آنذاك التي لم تشدد بعد على إدراج الإلتزامات في الموازنة العامة وإذا وضعت فلم تكن توضع على الأساس الإكتواري المعول به حاليا.

خامسا : أخطاء إكتوارية: إن القواعد الغامضة وغير الشفافة التي يبني عليها الإكتواريون نظام التمويل وإدارة الإصول سمح لصناديق التقاعد التعرض للمخاطر في أزمة فقاعات السوق في التسعينيات وإنهيار السوق في العام 2008، إذ لم يكن التشديد كاف في ثقافة صناديق التقاعد على تأكيد العلاقة الاكتوارية بين الأصول والإلتزامات، وأن ما يفعله الصندوق اليوم بأصوله من حيث الإستثمار والمخاطرة يؤثر على مستويات التمويل مستقبلا. بالإضافة إلى ذلك خفق الاكتواريون في توقع تأثير زيادة طول العمرعلى التزامات صناديق التقاعد، إذ طبقوا جداول الأعمار المتوقعة التي تطبقها شركات التأمين على الحياة الموجودة في الخمسينيات والستينيات على أنظمة التقاعد المدشنة في السبعينيات. وهكذا وجدت صناديق التقاعد نفسها بعد الألفية مضطرة لدفع رواتب تقاعدية لما يعادل سبع سنوات إضافية نتيجة الطفرة في زيادة معدل الأعمار قبل الوفاة، وهو بالمناسبة رقم كبير في عالم التأمينات الإجتماعية نظرا لحجم المصروفات الشهرية والسنوية. عموما، التهاون في تقدير مخاطر زيادة متوسط الأعمار قد أثبت أنه مكلف لرعاة التأمينات الإجتماعية من حيث التمويل، ويتمثل خطره في طبيعتة غير القابلة للتحوط.

سادسا : سياسة التخفيف الكمي (QE) التي لجأت اليها الأسوق الكبرى بعد الأزمة المالية أنقدت الإقتصاد من الإنهيار، لكنها سببت أضرارا جانبية عديدة، وصناديق التقاعد أول ضحاياها:  العامل المشتراك في إضطراب صناديق التقاعد في مختلف أنحاء العالم هو عوائد السندات المنخفضة جدا والذي تعوق إستعادة مستويات التمويل السابقة.

تاريخيا قدمت السندات بدخلها الثابت العالي أداة سلسة لإدارة التدفقات النقدية اللازمة لصناديق التقاعد. لكن تراجع تلك العائدات لأكثر من عقدين (إنخفضت من 16% في العام 1980 إلى دون الصفر في 2019) جعلت من الصعب على صناديق التقاعد شراء دخل لمنتسيبها، مما دفعهم إلى الدخول في الأسهم والاستثمارات غير المتداولة ذات المخاطر العالية كالعقارات والأسهم الخاصة.

ويعتقد عدد من الخبراء أن هذا الإندفاع نحو استراتيجيات الاستثمار غير التقليدية يثير القلق لما له من تبعات على مستويات التمويل في حال إنكماش السوق والتعرض لأية صعوبات غير متوقعة.

وتعمل سياسة التخفيف الكمي على خلق عرض هائل من الأموال الجديدة لشراء السندات الحكومية من أجل إجبار أسعار الفائدة طويلة الأجل على الانخفاض، مما يخلق بيئة ضارة لصناديق التقاعد وتعرضها لضربات متزايدة على جانبي ميزانياتها العمومية: فعوائدها المنخفضة تزيد من قيمة التزاماتها – مدفوعات مرتبات التقاعد المستقبلية – وفي الوقت نفسه دخلها من الاستثمار في السندات والتي تقليديا تشكل 40٪ من إجمالي أصولها. خاصة إذا ما علمنا إن انخفاض أسعار الفائدة طويلة الأجل بنسبة 1٪ يزيد من التزامات صناديق التقاعد بنسبة 20٪ بسبب تأثير الفائدة المركبة. ولهذا السبب، كلما زاد متوسط العمر المتوقع للمتقاعدين، أصبح موضوع التقاعد قضية سياسية مصيرية في بلدان متنوعة مثل روسيا واليابان والبرازيل وشيلي وفرنسا والمملكة المتحدة وغيرها.

وتبلغ قيمة سوق السندات العالمية اليوم حوالي 120 تريليون دولار أمريكي، منها 48 تريليون دولار أمريكي سندات سيادية، و20 تريليون دولار أمريكي للأسواق الناشئة  و10 تريليونات دولار أمريكي هي سندات ذات تصنيف استثماري، وأخرى ذات تصنيفات منخفضة. في سوق الديون السيادية، تمثل الولايات المتحدة واليابان 50٪ تليها الصين وأوروبا وكندا وأستراليا والهند والبرازيل وبلدان أخرى. وتبلغ قيمة السندات ذات العائد دون الصفر (وهي متزايدة حاليا) حوالي 15 تريليون دولار من السندات السيادية، في حين يبلغ عائد سندات الخزينة الأمريكية 1.5% وسندات المملكة المتحدة 0.5% وسندات الدول النامية 2.5% والسندات ذات التصنيف الإستثماري من 2 إلى 3.5%. .

سابعا :  إرتفاع سقف المعاش التقاعدي خاصة في القطاع الحكومي: تعتبر نسبة إستبدال المعاش (أي نسبة المعاش التقاعدي مقارنة للراتب الوظيفي قبل التقاعد) عندنا في البحرين وفي منطقة الخليج وعدد من الدول العربية ضمن الأعلى عالميا، إذ تبلغ 80% من المرتب بالنسبة لمدة الخدمة الكاملة، في حين أن متوسط نسبة الإستبدال المماثلة في دول منظمة التعاون الإقتصادي والتنمية تصل فقط إلى 57%، مع متوسط يصل إلى 40% في الولايات المتحدة و29% في المملكة المتحدة، إلا أن هذه الدول أوجدت وشجعت نظام الإدخار الخاص للتقاعد الذي يردف الدخل التقاعدي. من ناحية الخطر المالي، فقد تحوط قانون التقاعد للقطاع الخاص البحريني في مواده بإيجاد سقف للراتب المؤمن عليه وهو 4000 دينار بحريني. أما بالنسبة لقانون القطاع الحكومي فلا يوجد سقف محدد للراتب المؤمن عليه. وفي حين بدى ذلك منطقيا ومعقولا في فترة تصميم نظام التقاعد الحكومي في مطلع السبعينات عندما كانت رواتب الدوائر الحكومية (وحتى منتصف التسعينيات) أقل من رواتب شركات القطاع الخاص الكبرى والبنوك، إلا أن رواتب القطاع العام شهدت زيادات مرتفعة في العقدين الأخيرين، بل تم منذ منتصف التسعينيات تأسيس هيئات حكومية عديدة لها إستقلاها الإداري والمالي والتي إستقطبت كفاءات عالية تفوق رواتبها أحيانا رواتب المصرفيين والشركات الصناعية، ويتحمل صندوق التقاعد الحكومي الآن الإلتزامات التقاعدية لهولاء الموظفين من ذوي المرتبات العالية وبلا سقف محدد. أضف إلى ذلك ما كانت تمارسه الدوائر الحكومية من زيادة درجات الموظفين ووضعها على آخر مربوط الدرجة عند تقاعدهم، بهدف تحسين رواتبهم التقاعدية، إلا أن كل هولاء الموظفين حصلوا على زيادة في المرتب التقاعدي دون تسديد مساهمات تشتري أو تعادل تلك الزيادة، وكل هذه الأمور متراكمة، إذا ما أضفت عليها زيادة سنوية بنسبة 3%، تؤدي إلى مخاطر كبيرة في حجم التكلفة السنوية التي يتحملها صندوق التقاعد الحكومي.

ثامنا :  التدهور السريع في تكاليف الصناديق، والتسآؤل ما إذا كانت ملائمة للغرض الذي أنشت من أجله بشكل مستدام:  القريبون من الشأن التقاعدي في البحرين يعرفون أن العجز الإكتواري للصناديق كان حتى بداية العام 2015 قريبا من نسبة 50%.

 لكن الطفرات السريعة في المصروفات التقاعدية أوصلها إلى النسبة الكارثية الحالية، إذ على سبيل المثال زاد العجز (أو الفرق) بين إيرادات الإشتراكات والمصروفات التقاعدية للقطاع الخاص خلال خمس سنوات من مليوني دينار في العام 2014 إلى مبلغ قدره 63 مليون دينار في العام 2018، وفي القطاع العام من 55 مليون إلى 148 مليون دينار للفترة نفسها، وهي مؤشرات خطيرة فيما لو إستمر الوضع على ماهو عليه. أنظمة التقاعد عالميا تعرضت لعواصف متتالية تمثلت في إنخفاض حاد في عوائد الأسهم في العام 2001 تلاه إنخفاض في عوائد السندات في العام 2002، ثم تدهور أكبر لعوائد السندات بعيد الأزمة المالية وبدء التخفيف الكمي. ولهذه الأسباب إنخفض تمويل الصناديق التي تديرها أكبر 1500 شركة في العالم لتقاعد موظفيها من مستوى 122% في العام 1999 إلى مستوى 76% في العام 2002 (أي في غضون ثلاث سنوات فقط).

ولتستوعب حجم هذه الطفرات في التكاليف والإلتزامات التقاعدية، عليك أن تدرك أن طبيعة إلتزامات صناديق التقاعد ذات المزايا المحددة الموجودة عندنا في المنطقة هي إلتزامات طويلة الأمد جدا تصل إلى 50 بل إلى 70 سنة في المستقبل، بمعنى أن الشاب والشابة اللذان يلتحقون بسوق العمل في العام 2020 (وبالتالي يلتحقون بصناديق التقاعد الموجودة) قد يعيش نسبة كبيرة منهم للعام 2070 و 2080 ميلادية. ولهذا السبب، فإن زيادة فقط بنسبة 1% مركبة في التكاليف السنوية لصندوق التقاعد الموجود عندنا أو أي صندوق يشبهه إبتداء من العام 1990 لها تأثير سلبي بزيادة الإلتزمات التقاعدية بمقدار 34%، وأن إنخفاضا بنسبة 1% مركبة في عوائد الإستثمار من العام 2000 مثلا لها أثر سلبي بزيادة الإلتزامات التقاعدية بمقدار 21%.

قلة قليلة من صناديق التقاعد حول العالم هي التي أجرت مسبقا إختبار الجهدstress test) ) على التأثير المزدوج لإنخفاض عوائد الأسهم والسندات معا قبل حدوث هذه الأزمات، لكن الزيادة المتسارعة في تكلفة الإلتزامات التقاعدية أثبتت أن الجهات المسؤلة عن مزايا التقاعد قد أخذت على عاتقها أخطارا غير قابلة للتحوط (أخطار زيادة متوسط الأعمار المتوقعة وإنخفاض عوائد الإستثمار وإرتفاع نسبة التضخم) ولم يعد بالإمكان إخفاء هذه الأخطار. عالميا، مسألة العجز التمويلي لهذه الصناديق هي مسألة لم يتم حلها لحد الآن، وأن هذه الإلتزامات وإن كانت تشبه السندات وأدوات الدين، إلا أنها أكثر خطرا من الناحية المالية لعدم إمكانية التحوط عنها أولا، وثانيا وإن كانت تشبه كوبون السندات إلا أن ذيل هذه الإلتزامات هو أطول وهيكلتها القانونية أكثر تعقيدا بكثير.

وختاما نقول، أنه ربما ليست المشكلة هي الأخطاء الإكتوارية والقرارات الإستثمارية والسلوك المحاسبي لهذه الصناديق (بل قد تكون ربما ساهمت في إطالة عمر هذه الصناديق حتى اليوم) ، بقدر ما هي نتاج مسؤلون متعاقبون أخروا الإصلاحات الضرورية وإلتزامات التمويل للأجيال اللاحقة، وبقدر ما أن المشكلة الحقيقية هي أنظمة التقاعد ذات المزايا المحددة الموروثة من حقبة الحرب العالمية الثانية والذي هي معطوبة في الأساس.